مع إشراقة يوم جديد، يحاول سكان المناطق الريفية والنائية بالبلاد التونسية عامة وبولاية سليانة خاصة التعرف على عادات جديدة حتى تخرجهم من المعاناة اليومية مع تواصل عزلتهم أمام تهرؤ البنية التحتية والأساسية وغياب دور الثقافة وغيرها من المرافق الضرورية البسيطة.
ففي هذه المناطق النائية، تنعدم الحياة. فأيام الأسبوع تتشابه في جميع أحداثها ولا جديد يذكر غير أن القديم يعاد ويتكرر… فلا توجد لا وسائل النقل ولا الماء الصالح للشراب وحتى الطريق المؤدية للمدارس غير مهيئة… هنا الجميع يشترك في خدمة الأرض وتربية الحيوانات للعيش بمختلف شرائحهم العمرية فالأطفال مغتصبون لحقوقهم ومتعطشون لاكتشاف حياة جديدة ملؤها التحدي والمغامرة.
وفي بادرة هي الأولى من نوعها بولاية سليانة، إرتأت مصالح مركز الفنون الدرامية والركحية بالجهة أن تقطع مع الصورة النمطية للأنشطة الثقافية بدور الثقافة لتخرج بها الى بيئة جديدة متعطشة ألا وهي بمدارس المناطق النائية…لينطلق أمس الإربعاء مهرجان “سيركوي.تياتر” في دورته الأولى وكأنه بصيص أمل وسط العتمة القاتمة حتى تتغير أفكار الجمود والخمود والسواد في مكان لا يميزه غير ثروة منتوجه الغابي وسط تضاريس وبرد قاس. فيجوبون أعالي المناطق الجبلية وسفوح الجبال وبين الأودية غير مكترثين بصعوبة التضاريس همهم الوحيد رسم الفرحة على وجوه التلاميذ وبذلك تتكرس اللامركزية ويتم القطع مع الصورة النمطية للمشهد الثقافي بفضاءاتها.
وليس ببعيد على معتمدية مكثر، وعلى بعد حوالي 10 كلم تقع المدرسة الإبتدائية الحذائقية، قد تتوه أثناء بحثك عنها نظرا لعدم تواجد حتى لوحة تحمل إسمها أو طريق مهيئ في إتجاهها. فحتى العمود الكهربائي الواقع أمامها مائل وايل للسقوط ليدل على أن التيار الكهربائي قد ينقطع لحظة وتنعدم هنا الرؤية.
ينطلق القائمون على العرض في وضع إكسسواراتهم وسط ذهول كبير من هؤلاء التلاميذ. فعيونهم لم تفارقهم لو للحظة… فالبعض يخال أنه موعد التلقيح ولكن “إنه المسرح” فيتسارعون للظفر بمقعد في الطاولات الأمامية.
وفي أول محطة لهذا المهرجان ذهول وتعجب في أعين الأطفال كأنهم لأول مرة يلمحون عرضا مسرحيا.. يتابعون بكل شغف طياته وتفاصيله فتتعالى أصواتهم وضحكاتهم تارة وتصفق إيديهم تارة أخرى
وجوه بريئة لم تفارقها الإبتسامة وعيون صغيرة بأحلام كبيرة تطمح إلى أن تشارك زملاءها من معتمديات شمال الولاية حقوقها البسيطة ألا وهي عيش ملائم.
أغلب التلاميذ يتحدثون عن “قرقورة” لعلها ما بقي راسخا بذهنهم من عرض ما قبل الإفتتاح “تعويذة قرقورة”لمركز الفنون الركحية والدرامية بولاية زغوان
تحدث مدير مركز الفنون الركحية والدرامية بسليانة، صالح الفالح في تصريح ل”وات” أن مهرجان”سيركوي.تياتر” في دورته الأولى من 6 إلى 9 أكتوبر موجه إلى المناطق الداخلية النائية وللمدارس الريفية ليحتفل أساسا بالطفل والمسرح ويكون قريبا من الجهات الداخلية بإعتبار حقها في الثقافة والمسرح معتبرا أن المهرجان هو مهرجان الأمل حتى يذكر بمتساكني الأرياف إيمانا بأن الوطن للجميع وفق قوله
وأضاف الفالح أن المهرجان هو عبارة على قافلة ثقافية تجوب المدارس الداخلية الريفية بمعتمديات مكثر والروحية وكسرى وسليانة الشمالية وهو مصافحة أولية تتضمن المسرح والموسيقي لافتا إلى أنه سيشمل في دوراته القادمة مخيمات وعروض لكامل سكان القرى الريفية.
من جهتها، قالت صاحبة نص وإخراج مسرحية “تعويذة قرقورة” هدى اللموشي إن موضوع المسرحية هو الدفاع عن الوطن من خلال مجموعة من الحيوانات تعاونوا فيما بينهم وبمساعدة الضفدعة “قرقورة” التي تملك تعويذة الزلزال والعاصفة ليتمكنوا من هزم الإنسان الذي أراد إغتصاب الغابة وتشريدهم مبينة أن هدفها الأساسي تربوي بما في ذلك التعاون والمواطنة.
وأكدت أن الفرحة التي لاحظتها في عيون أطفال لأول مرة يشاهدون المسرح هو في حد ذاته أهم بكثير من المهرجان وانتصار كبير على حد قولها.
وأعرب عدد من التلاميذ في تصريحات متطابقة ل”وات “أنهم إستحسنوا هذه البادرة الأولية خاصة أنهم لأول مرة يشاهدون عرضا مسرحيا داعين إلى جعلها دورية
“سيركوي.تياتر” تتواصل جولة مهرجان circuit.théatre في ربوع وأرياف ولاية سليانة لتنتقل في يومها الأول أيضا إلى معتمدية الروحية التي تبعد 70 كم على مركز الولاية وعلى بعد 15 كلم من معتمدية الروحية يحط المهرجان رحاله بالمدرسة الابتدائية الدليوات فهنا الطبيعة قاسية جدا ولا حديث على لسان تلاميذها سوى على وادي بوعجيلة القريب منهم والذي جرف العديد من زميلاتهم وزملائهم كلما تساقطت كميات هامة من الأمطار. ففي هذه المنطقة حتى وسائل النقل “النقل الريفي “منعدمة إما يتنقلون مشيا على الأقدام أو على دوابهم وحتى خلف الشاحنات الخفيفة.
فهذه المدرسة قد تختلف جغرافيا على مدرسة الحذائقية وينعدم بها الماء الصالح للشراب ولئن وجدت بها لوحة حملت إسمها وبابا خارجيا يميزها إلا أنه إفتقر الى سور قد يحمي هؤلاء الأبرياء
وجوه بريئة صغيرة قد بدا عليها الحياء بإعتبار أن المنطقة لا تزال محافظة والجميع أقرباء .. يتسارعون بأجسامهم الصغيرة محملين كراسيهم لوضعها وسط ساحة المدرسة
وفي لحظة عم الهدوء وأخذ الكل يردد مقاطعا موسيقية مع تجليات الفنان”عادل بوعلاق” وفي لحظة أخرى يتعالي التصفيق والهتافات كأنه نابع من داخلهم
تتواصل التجليات ويتواصل الحماس والفرح فكأن بالجميع يتمنى أن لا يفارقوا العرض ولو للحظة حتى أن أحد التلاميذ ربما في سنته الأولى قد غلبه النعاس فراح يفتح عينه بأيديه كي لا يفوته العرض ويفوته بذلك قطار الثقافة كما فات جيرانه قطار التنمية..ربما ظلت لفظة”من نام لم تنتظره الحياة راسخة بذهنه”
وإختتم المهرجان في يومه الأول بنفس المدرسة المذكورة بعرض مسرحية “كن ربيعا” من إنتاج مركز الفنون الركحية والدرامية بجندوبة
تتواصل فعاليات المهرجان ويتواصل حلم أطفال المناطق الريفية النائية بغد أفضل ينفث عنهم غبار الأتربة و يجعلهم قادرين على العيش
(وات/ تحرير أميمة العرفاوي)
المقال السابق